"علينا أن نرى الآن الطرق و القواعد التي يجب على الأمير أن يسير فيها بالنسبية إلى رعاياه وأصدقائه.ولما كان الكثيرون قد أسهبوا في الكتابة عن هذا الموضوع ، فاني اخشي أن تبدو كتابتي عنه غرورا مني لا سيما وأنني اختلف في هذا الموضوع خاصة عن رأي الآخرين.ولكن لما كان من قصدي أن اكتب شيئا يستفيد منه من يفهمونه ، فاني أرى أن من الأفضل أن امضي إلى حقائق الموضوع بدلا من تناول خيالاته ، لاسيما وان الكثيرين قد تخيلوا جهوريات وإمارات لم يكن لها وجود في عالم الحقيقة ،وأن الطريقة التي نحيا فيها تختلف كثيرا عن الطريقة التي يجب أن نعيش فيها ، وان الذي يتنكر لما يقع سعيا منه وراء ما يجب أن يقع إنما يتعلم ما يؤدي إلى دماره بدلا مما يؤدي إلى الحفاظ عليه . لا ريب في أن الإنسان الذي يؤيد امتهان الطيبة و الخير في كل شيء،يصاب بالحزن و الأسى عندما يرى نفسه محاطا بهذا العدد الكبير من الناس الذين لا خير فيهم.ولذا فمن الضروري لكل أمير يرغب في الحفاظ على نفسه أن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير ،وان يستخدم هذه المعرفة أو لا يستخدمها، وفقا لضرورات الحالات التي يواجهها."
نيقولو مكيافللي
قد يتساءل متسائل عن السبب الذي دفعنا إلى تلخيص هذا الكتاب الضارب في القدم، والجواب بسيط وواضح ، انه الربيع العربي الذي جعل الجميع يعيد النظر في عدد من المفاهيم السياسية ، وزخم النقاش حول دور الحاكم في علاقته بشعبه . فرأينا أن ننقل للقارئ ملخصا عن احد أشهر الكتب السياسية في تاريخ الفكر الإنساني ، حيث بلغت شهرته إلى حد وصف مؤلفه بالشيطان ونعت الكتاب نفسه بقران الحكام أو إنجيلهم.فأي كتاب هذا الذي جمع وصفي اللعنة و القداسة معا؟ خصوصا إذا علمنا انه كان موضوع أطروحة موسوليني لنيل الدكتراه، وقيل أن هتلر ولينين وستالين كانوا يضعونه على مقربة من أسرته ويقرؤون فيه كل ليلة.وقال عنه سيد قطب في "معالم الطريق": " إن كتاب مكيافللي ليس شراً محضاً بل فيه وفيه، على أنه لا يستطيع تمييز خيره من شره إلا بصير عليم."
ولد نيقولا مكيافللي في فلورنسا عام 1469 من أسرة توسكانية عريقة، وشب في عهد الأمير "المديتشي" الذي أطلق عليه الفلورنسيون اسم "لورنزو" العظيم، والذي أعتبر عهده العصر الذهبي للنهضة الايطالية. وكان "لورنزو" أديباً وشاعراً فشمل برعايته الفنانين والأدباء وأهل العلم وإليه يرجع الفضل في حفظ التوازن في القوى بين الوحدات الرئيسة الخمس للسلطات في إيطاليا.(مملكة نابولي،الدولة البابوية في رومة ، و البندقية و فلورنسا وميلان).
كان الشاب ميكيافللي مثقفا و مهتما بأوضاع بلاده السياسية، بل ممارسا لعمل سياسي غير هين ،فقد انتخب" سكرتيرا للمستشارية الثانية لجمهورية فلورنسة، التي تشرف على الشؤون الخارجية و العسكرية، واضحي من واضعي السياسة ومخططيها، حتى انه اختير في أربعة وعشرين بعثة ديبلوماسية، بينها أربعة لملك فرنسا، وعدة بعثات لرومة وواحدة إلى الإمبراطور مكسميليان. إلى أن وقع تغيير في الواقع السياسي، بعد أن قضى ميكيافللي ثلاثة عشر عاما في الحكم.فجاء الجيش الفرنسي من جديد إلى فلورنسة ، واضطر أهلها تحت ضغط الفزع و الخوف إلى استدعاء ال مديتشي(وكانت عائلة ميكيافللي منذ القدم من اشد المعادين لهم) ، وخرج ميكيافللي بدوره منفيا من مدينته.
لم يكن كتاب "الأمير" الوحيد الذي ألفه "ميكيافللي إلا انه الأشهر.وقد ضمنه عصارة تجربته وبعثه كإهداء إلى "لورنزو الجديد " . واستمر يوزع على شكل مخطوط ونسخ عنه، لكن طباعته لم تتم إلا بعد خمس سنوات من وفاة ميكيافللي سنة 1532.وعنه يقول صاحبه:"لم أحاول تزويق كتابي بالجمل الطويلة، ولا بالزخارف اللفظية الطنانة، ولا بالحلي الجذابة المصطنعة التي يلجا إليها الكثير من الكتاب لتنميق مؤلفاتهم، لأني لا اطلب مجدا لكتابي أكثر مما يستحقه بفضل جدة موضوعه ورزانته.".
الاميـــــــــــــــــــر
أنواع الحكومات المختلفة و الطريقة التي أنشئت بها.
يستهل الكاتب تحليله السياسي بتلخيص لأهم أشكال الحكم التي عرفتها البشرية منذ بداية ظهور مؤسسة الدولة إلى العصر الذي عايشه ميكيافللي.حيث يقسمها إلى شكلين لا ثالث لهما : إما الشكل الجمهوري أو الملكي. ويقسم النمط الأخير إلى ملكيات وراثية أو حديثة العهد والنشوء. وهذه الأخيرة هي التي يطيل الكاتب الحديث عنها ، بل يخصص لها جل فصول مؤلفه.ومبرره في ذلك أنها الأكثر عرضة للقلاقل و الصعوبات . على عكس الملكيات الوراثية ، حيث أن " الأمير صاحب الحق الشرعي ، لا يستفز وجوده ، بحكم الحاجة و العلة ، أية حزازات فمن الطبيعي أيضا أن يكون حب الشعب له كبيرا " إلا إذا اقترف من الرذائل ما يربو على المعقول.
أما" الملكيات الحديثة المختلطة" كما يسميها ميكيافللي فإنها تتعرض لعدة عراقيل يفصلها في كتابه ، مرفقا كل حالة منها بنصائح للأمير حتى يتمكن من تفاديها أو التغلب عليها :
- يري ميكيافللي أن الناس يقبلون على تغيير حكاهم بمحض إرادتهم ، آملين في تحسين أحوالهم. فان لم يتحقق لهم ذلك وانتقلوا إلى حالة أسوا أحسوا بخداع حكامهم الجدد وسعوا إلى الثورة عليهم بدورهم. وهذه نتيجة حتمية لسبب بديهي آخر وهو ما يلحقه جنود الحاكم الجديد من أذى بالرعايا في المملكة التي وصل الأمير إلى حكمها "وهكذا فانك ستجد أعداءك دائما ، أولائك الذين تضرروا من جراء احتلاك لبلادهم ،وليس في مكنتك الاحتفاظ بصداقة أولائك الذين ساعدوك في الحصول على هذه الممتلكات الجديدة ، لأنك لن تستطيع تحقيق جميع آمالهم ،كما انك ستكون عاجزا عن مقابلتهم بالشدة و الصرامة بالنظر لما تشعر به من دين لهم عليك.ولهذه الأسباب كلها ، مهما كانت جيوشك بالغة القوة فانك ستحتاج كل الحاجة إلى عطف السكان لتتمكن من احتلال بلادهم."
- عندما يضيف الأمير إلى مملكته دولا جديدة تتحدث نفس لغة وتنتمي إلى نفس القومية فمن السهولة الاحتفاظ بالضم ،لكن الأمر يختلف عندما يتم ضم دولة تختلف لغة وقومية وعادات ، يكون حينها على الأمير إن يبذل جهدا مضاعفا للحفاظ عليها ، وينصحه الكاتب قائلا:" ولعل من خير الوسائل و أكثرها طمأنينة هو أن يقرر الحاكم الجديد إقامة مقره في الممتلكات الجديدة .وهذا القرار يجعل الامتلاك أكثر سلامة وأطول أمدا.وهو ما فعله الأتراك في بلاد اليونان ". فذلك – في رأي المؤلف - يمكنه من معالجة الاضطرابات في مهدها ، كما يقوي من هيبته بين مواطنيه . كما أن وجوده يحد من جرأة البلدان الأجنبية على مهاجمة تلك الأرض المحتلة قصد الفوز بها.و ينصح ميكيافللي الأمير بإقامة الجاليات بتلك الأرض تعزيزا لسلطته ، وهو خيار أفضل من الحاميات العسكرية التي تكلف كثيرا وتشعر السكان بوطأة الاستعمار.
- وبخصوص معاملة الأمير لرعاياه الجدد :" يجب أن نلاحظ انه علينا أن نعطف على الناس أو نقضي عليهم.إذ أن في وسعهم الثار للإساءات الصغيرة ، أما الإساءات الخطرة البالغة فأنهم اعجز من أن يثاروا لها. ولذا إذا أردنا الإساءة إلى إنسان فيجب أن تكون هذه الإساءة على درجة بالغة لا نضطر بعدها إلى التخوف من انتقامه ."
- لا يغفل ميكيافللي مسالة التعامل مع الدول المجاورة ومدى تأثيرها في الأوضاع الداخلية للبلدان ، فهو ينصح الأمير ب : " أن يقيم في نفسه زعيما لجيرانه الضعفاء ، وحاميا لهم ، وان يحاول إضعاف الأقوياء منهم ، وان يعنى بحمايتهم من غزو حاكم أجنبي آخر ، لا يقل عنه قوة وشأوا.وسيجد نفسه في هذه الحالة دائما مدعوا للتدخل ، بين جيرانه المتنازعين بسبب الطموح أو الخوف ، بطلب منهم."
- ما يمكن نعته في أيامنا بالجانب الاستراتيجي للحكم يشير له ميكيافللي بالنظرة المستقبلية للأمور والتي يجب أن يتسم بها الأمير حتى يتمكن من توقع كل المخاطر والعمل على مواجهتها قبل إن تستفحل.
الاستيلاء على الدول و المحافظة عليها
بعد هذا التقديم الشامل للصعاب التي تتعرض لها الملكيات الحديثة ،ينتقل ميكيافللي إلى تناول مختلف الطرق التي يتم الاستيلاء بها عل الإمارة الجديدة ، مبينا ما لكل منها من خصوصية على الأمير أخذها بعين الاعتبار.
حكم المدن أو الممالك التي كانت قبل احتلالها تعيش في ظل قوانينها الخاصة :
"عندما تكون الدول التي تم احتلالها قد الفت الحرية في ظل قوانينها الخاصة ، فهناك ثلاثة سبل للاحتفاظ بهذه الدول . أما السبيل الأول فهو تجريدها من كل شيء ، وأما الثاني فهو أن يذهب الأمير المحتل ليقيم في ربوعها، وأما الثالث و الأخير فهو أن يسمح لأهلها بالعيش في ظل قوانينهم مكتفيا بتناول الجزية منهم.وخالقا فيها حكومة تعتمد على الأقلية الموالية للحاكم. وتدرك مثل هذه الحكومة التي خلقها الأمير أنها تعتمد في بقائه على صداقته وحمايته، ولذا فهي تبذل بالغ الجهد للحفاظ عليهما. يضاف إلى هذا أن المدينة التي الفت الحرية لا تذعن بسهولة إلا إلى أبنائها ومواطنيها. وهذا هو السبيل الصحيح للاحتفاظ بها."
-الممالك المحتلة حديثا بقوة السلاح الخاص و بالقدرة و الكفاءة:
يؤكد ميكيافللي في هذا الباب على القوة كأفضل وسيلة للحفاظ على هذه الممالك ، فلولا القوة ما كان للقوانين من قيمة .ويستدل بالتاريخ قائلا : " أثبتت الأيام أن الأنبياء المسلحين قد احتلوا وانتصروا بينما فشل الأنبياء غير المسلحين ". ويفصل ميكيافلللي : "تختلف طبيعة الشعوب ، وقد يكون من السهل إقناعها بأمر من الأمور، ولكن من العسير جدا إبقاؤها على هذا الاقتناع ، ولهذا أصبح من الضروري فرض الأمور عليها ، حتى إذا توقفت عن الاقتناع أرغمت عليه بالقوة."
- الممالك التي يتم احتلالها بمساعدة الآخرين أو بمساعد الحظ:
قد لا يجد الذين يرتقون من صفوف الشعب إلى مرتبة الإمارة بفضل حسن الطالع صعوبة كبيرة، في هذا الارتقاء ولكنهم يجدون صعوبة كبيرة في المحافظة على مراكزهم لذا :"على كل من يرى ضرورة للاحتفاظ بإمارته الجديدة عن طريق تامين نفسه ضد الأعداء ، وكسب الأصدقاء و الاحتلال بالقوة أو الخدعة وفرض الحب و الخوف على رعاياه وبسط الاحترام و التبعية على جنوده ن وتدمير كل من يمكن أن يلحق به الأذى ، وإدخال البدع بدل العادات القديمة و الاتصاف بالشدة والرحمة معا و الشهامة و التحرر ، و القضاء على المتطوعين القدامى وخلق قوة جديدة ، و الحفاظ على صداقة الملوك و الأمراء بشكل يحملهم على الإقبال على تقديم المنافع له و الخوف من إيذائه.أن يجد في أعمال هذا الرجل خير مثال يحتذى."
أولئك الذي يصلون إلى الإمارة عن طريق النذالة:
نعم ، رغم أن أهم ما تميز به كتاب "الأمير" هو الفصل التام للسياسة عن الأخلاق ، إلا أننا مع ذلك نجد ميكيافلللي يتحدث عن النذالة في الوصول إلى الحكم. لم يقدم لها تعريفا محددا إلا انه قام بسوق مثالين تم فيهما الحصول على السلطة عن طريق "النذالة" لا نجد مناصا من التطرق لكليهما في هذه الفقرة ولو من باب تلمس معنى "النذالة "في علاقتها بالإمارة عند ميكيافللي.
المثال الأول يخص " اغاتو كليس " ملك سراقوسة. الذي ينحدر من طبقات فقيرة جدا، لكن قوته الجسمانية و العقلية مكنته من الانضمام إلى المتطوعة والارتقاء حتى بلغ درجة قاضي القضاة "بريتور". فاغراه طموحه بالإمارة،" واسر بنواياه إلى هاميلكار القرطاجي الذي كان يحارب على رأس جيوشه في صقلية.واستدعى ذات صباح أهل سراقوسة ومجلس شيوخها للتشاور معهم في قضايا بالغة الأهمية بالنسبة للجمهورية.وعند إعطائه الإشارة المقررة ، قام جنوده بذبح جميع الشيوخ وأثرياء المدينة. وبعد أن تحقق له القتل تمكن من احتلال المدينة وحكمها دون أن يخشى المنازعات الداخلية." ويعلق ميكيافللي على هذا الحدث قائلا :" ولا يمكننا أن نطلق صفة الفضيلة على من يقتل مواطنيه.ويخون أصدقاءه ويتنكر لعهوده.ويتخلى عن الرحمة و الدين. وقد يستطيع المرء بمثل هذه الوسائل أن يصل إلى السلطان ، ولكنه لن يصل عن طريقها إلى المجد."
أما النموذج الثاني فيدعى " اوليفيروتو دافيرمو" وهو يتيم الأب رعاه خاله الذي أنشاه على أن يكون جنديا منذ حداثته حتى حصل على مركز عسكري ممتاز ، لكنه رأى من المهانة أن يظل تحت قيادة الآخرين. فعزم على احتلال مدينة "فيرمو" بمساعدة بعض مواطني المدينة . فكتب لخاله معبرا عن أشواقه لرؤيته ورؤية مدينته – التي كان بعيدا عنها في خدمة الجيش - وطلب منه أن يهيئ له استقبالا يليق بما أحرزه من مكانة . خصوصا انه يرافقه مائة فارس من أصدقائه وأتباعه.فحقق له خاله رغبته "وحمل أهل المدينة على استقباله وتكريمه ثم استضافه في منزله. وبعد أن انتظر اوليفيرتو بضع أيام حتى اعد خطته الشريرة الماكرة. دعا خاله جيوفاني وجميع البارزين من رجال "فيرمو" إلى وليمة كبرى.وبعد العشاء وما أعقبه من احتفال مألوف في هذه المآدب ، افتتح "وليفيتو" بكياسة بعض المناقشات المهمة {.........} ومضى إلى غرفة مجاورة ما عتم أن لحق به إليها جيوفاني {خاله} و الوجهاء الآخرون، وما كادوا يجلسون حتى هجم عليهم الجنود من مخابئهم فقتلوا جيوفاني وجميع الوجوه . وبعد انتهاء المجزرة امتطى "اوليفيرتو" جواده ومر بشوارع البلدة حاصر دار قاضي القضاة. اضطر الجميع خوفا منه إلى إطاعته وتأليف حكومة جديدة نصبوه عليها أميرا."
ورغم تحفظه أو موقفه الغير مشجع لأسلوب هذين الأميرين ، إلا أن ميكيافللي لا يحرمهما من نصائحه للحفاظ على غنيمتهما حيث يقول :" على المحتل عند احتلاله لدولة من الدول أن يتخذ التدابير اللازمة لارتكاب فظائعه. فورا ومرة واحدة ، وان لا يعود إليها من يوم لأخر. وهكذا يتمكن عن طريق عدم القيام بتبدلات جديدة من خلق الطمأنينة عند شعبه ، واكتسابه إلى جانبه بواسطة المشاريع النافعة له. أما الذي ينهج نهجا مغايرا ، إما بسبب الجبن أو المشورة الفاسدة ، فانه يضطر للوقوف دائما وسيفه في يده . إذ لا يستطيع مطلقا الاعتماد على رعاياه لأنهم بسبب تكرر الإساءات الجديدة عاجزون عن الاعتماد عليه. ومن الواجب اقتراف الإساءات مرة واحدة وبصورة جماعية، وهذا يفقدها مزية انتشار التأثير وبالتالي لا تترك أثرا سيئا كبيرا.أما المنافع فيجب أن تمنح قطرة فقطرة حتى يشعر الشعب بمذاقها و يلتذ به."
الإمارات المدنية:
يقول المؤلف: "نأتي الآن إلى الحالات التي يرتفع فيها المواطن إلى مرتبة الإمارة ، لا عن طريق الجريمة أو العنف الذي لا يحتمل ، بل عن طريق تأييد رفاقه المواطنين وهذه الحالة هي التي ندعوها ب " الإمارات المدنية". وللوصول إلى هذا المنصب لا يعتمد الإنسان كلية على الكفاءة أو على الحظ بل على المكر يدعمه الحظ. وقد يصل المرء إليه إما عن طريق تأييد الجماهير أو عن طريق دعم النبلاء. إذ يوجد هذان الفريقان المتعاكسان في كل مدينة ، وينجم تعاكسهما عن رغبة الجماهير في تجنب طغيان العظماء، وعن رغبة العظماء في التحكم و الطغيان على الجماهير."
إذا فهذا الأمير نوعان : احدهما رفعه الشعب و الآخر رفعه النبلاء. ويلقى الأمير الذي يصل إلى منصبه بمساعدة النبلاء مصاعب اكبر في الحفاظ على سلطته ، من ذلك الذي يرفعه الشعب إليها . إذ انه يحاط بزمرة من النبلاء الذين يعتبرون أنفسهم أندادا له فيعجز بالتالي عن تسيير دفة الحكم وفقا لما يرى.
على الأمير في هذه الحالة – حسب مكيافللي - أن يبرع في خلق التوازن بين مصالح الفئتين مميلا الدفة لصالح شعبه وذلك لعدة أسباب أهمها : أن الأمير لا يستطيع حماية نفسه من شعب ناقم عليه بالنظر إلى كثرة عدد أفراد الشعب ، ولكنه يستطيع أن يحمي نفسه من عداء النبلاء لأنهم قلة. وليس في وسع الأمير كذلك إلا أن يعيش مع نفس الشعب . أما بالنسبة إلى النبلاء، فيستطيع أن يحيا دون أن يحاط بنفس الناس منهم، إذ بإمكانه أن يضفي عليهم النبالة أو يخلعها عنهم في أي وقت ،كما أن في وسعه أن يرفع من رتبهم أو يخفضها.
الإمارات الكنسية :
يرى المؤلف أن المشكل في هذه الإمارات يكون قبل احتلالها ، أما المحافظة عليها فهي تخضع لتقاليد دينية عريقة تجعل من أمرائها وحدهم الذين يملكون دولا لا يحتاجون للدفاع عنها . فهي إمارات أمنة وسعيدة .ويبدي ميكيافللي بعض التحفظ عند الخوض في هذا الموضوع حيث يقول "فسأتجنب الحديث عنها إذ أن كون الله هو الذي يمجدها ويحافظ عليها يجعل من السخف و الحماقة البحث فيها". لكن ذلك لا يمنعه من سوق بعض الأمثلة المستمدة من تاريخ ايطاليا والتي تبين كيف أصبحت الكنيسة تتمتع بالسلطة الزمنية العظيمة التي كان المؤلف شاهدا عليها.
قوة الجيوش
ينتقل ميكيافللي بعد هذا التصنيف لأشكال الحكم وأنواع الأمراء - كما عرفهم في زمانه ومن خلال تجربته - إلى الحديث عن أساليب الحصول على دولة قوية ، إذ يعتبر أن " من يستطيعون المحافظة على مراكزهم أولئك الذين يملكون الرجال و المال ويستطيعون حشد جيش كاف ويصمدون في الميدان ضد كل من يهاجمهم".ثم يأخذ في تفصيل في أنواع المقاتلين في صفوف هذا الجيش لتوضيح مزايا ومساوئ كل نوع.
الأشكال المختلفة للمتطوعة وجنود المرتزقة :
يقول :"والمرتزقة و الرديف قوات غير مجدية ، بل ينطوي وجودها على الخطورة.وإذا اعتمد عليها احد الأمراء في دعم دولته فلن يشعر قط بالاستقرار و الطمأنينة .لان هذه القوات كثيرا ما تكون مجزاة وطموحة لا تعرف النظام ولا تحفظ العهود والمواثيق.تتظاهر بالشجاعة أمام الأصدقاء وتتصف بالجبن أمام الأعداء.لا تخاف الله ولا ترعى الذمم مع الناس .والأمير الذي يعتمد على مثل هذه القوات قد يؤجل دماره المحتوم إذا تأجل الهجوم الذي سيتعرض له .وهكذا فان هذا الأمير يتعرض أيام السلم للنهب من المرتزقة وفي أيام الحروب للنهب من العدو.ولعل العامل في هذا هو افتقار المرتزقة إلى الولاء.أو إلى أي حافز أخر من الحب يحملهم على الصمود في ميدان القتال ، باستثناء الراتب الطفيف الذي يتقاضونه ، وهو اقل شانا من أن يحملهم على التضحية بأرواحهم في سبيلك."
القوات الإضافية والمختلطة والأصلية :
ويقصد بها قواة الدول القوية المجاورة التي يقوم الأمير بالاستعانة بها عند الضرورة، وهي في نظر ميكيافللي عديمة الجدوى كالمرتزقة . يبرر: "وقد تكون هذه الجيوش جيدة في حد ذاتها ، ولكنها دائما شديدة الخطورة على من يستعين بها ، لأنها إذا خسرت فأنت مهزوم وإذا انتصرت فقد غدوت أسيرها (.....).وقد اقر الحكماء دائما أن ليس هناك اضعف من الإنسان الذي يعتمد في قوته على قوة الآخرين ".
واجبات الأمير تجاه المتطوعة :
المتطوعة هي قوات الجيش المكونة من المواطنين، وهي التي يعتبرها ميكيافلللي أفضل أنواع الجيوش بما يربطها بالأمير من حب وولاء و بالأرض التي يتم الذود عنها.وعلى الأمير أن يبدو أمامهم دائما بصفة القائد القادر على خوض الحروب لان:
" الحر ب هي الفن الوحيد الذي يحتاج إليه كل من يتولى القيادة. ولا تقتصر هذه الفضيلة القائمة فيها على المحافظة على أولئك الذين يولدون أمراء ، بل تتعداها إلى مساعدة الآخرين من أبناء الشعب على الوصول إلى تلك المرتبة . وكثيرا ما يرى الإنسان أن الأمير الذي يفكر بالترف أو الرخاء، أكثر من تفكيره بالسلاح ، كثيرا ما يفقد إمارته .ولا ريب في أن ازدراء فن الحرب هو السبب الرئيسي في الحصول على الدول والإمارات.(...) إما بالنسبة إلى العقل فعلى الأمير أن يقرا التاريخ وان يدرس أعمال الرجال البارزين فيرى أسلوبهم في الحروب ، ويتفحص أسباب انتصاراتهم وهزائمهم ، ليقلدهم في هذه الانتصارات ويتجنب الوقوع في الأخطاء التي أدت إلى الهزائم."
صفات الأمير
يقترب ميكيافللي في هذا الجزء أكثر فأكثر من شخصية الأمير ، فيتناول بالتفصيل عددا من الصفات التي تختلف من أمير لآخر والتي صنعت مجد البعض بينما دمرت حكم البعض الآخر. ويظل المؤلف في هذا الجزء اقرب وأوفى لمذهبه في تغليب كفة القوة والدهاء في التعامل مع السلطة على كفة الأخلاق.
السخاء و البخل :
ينصح ميكيافيلي الأمير بالا يبالغ في مظاهر الترف ليحصل على شهرة السخاء ، فهو بذلك يستنزف إمكانياته المادية ويضطر بعدها إلى إثقال شعبه بالضرائب مما يدفع بهذا الأخير إلى التذمر وكره الأمير ، "ويكون بسخائه قد اضر بالكثيرين في سبيل نفع الأقلية وسيشعر بأول اضطراب مهما ضؤل شانه ، ويتعرض للخطر بعد كل مجازفة." ويستطيع الأمير إذا كان له من الحكمة الكافية ألا يشتهر بالبخل ويكون رشيدا في نفقاته في نفس الوقت فيتمكن بذلك من تعزيز قوته وانجاز مشاريع لصالح شعبه دون أن يثقل كاهله وبهذا سيشهد له التاريخ انه كان : " كريما حقا مع جميع أولئك الذين لا يأخذ منهم أموالهم وهم كثر للغاية. وشحيحا مع أولئك الذين لا يهبهم المال ، وهم قلة ضئيلة."
الرأفة والقسوة وهل من الخير أن تكون محببا او مهابا:
يقول :"وهنا يقوم السؤال عما إذا كان من الأفضل أن تكون محبوبا أكثر من أن تكون مهابا. أو إن يخافك الناس أكثر من أن يحبوك. ويتلخص الرد على هذا السؤال ، في أن من الواجب أن يخافك الناس و أن يحبوك، ولكن لما كان من العسير أن تجمع بين الأمرين فان من الأفضل إن يخافوك على أن يحبوك هذا إذا وجب عليك الاختيار بينهما وقد يقال عن الناس بصورة عامة أنهم ناكرون للجميل متقلبون مراؤون ميالون إلى تجنب الأخطار ، وشديدو الطمع. وهم إلى جانك ، ،طالما انك تفيدهم فيبذلون لك دمائهم وحياتهم وأطفالهم،وكل ما يملكون كما سبق لي أن قلت ، طالما أن الحاجة بعيدة نائية ولكنها عندما تدنو يثورون .ومصير الأمير -الذي يركن إلى وعودهم دون اتخاذ أية استعدادات أخرى – إلى الدمار و الخراب."
كيف يتوجب على الأمير أن يحافظ على عهوده:
فيما يخص الوفاء بالعهود يرى المؤلف انه : " لا ريب أن كل إنسان يدرك أن من الصفات المحمودة للأمير أن يكون صادقا في وعوده وان يعيش في شرف ونبل لا في مكر ودهاء. لكن تجارب عصرنا أثبتت أن الأمراء الذين قاموا بجلائل الأعمال لم يكونوا كثيري الاهتمام بعهودهم و الوفاء بها ، تمكنوا بالمكر و الدهاء من الضحك على عقول الناس وإرباكهم. وتغلبوا أخيرا على أقرانهم من الذين جعلوا الإخلاص و الوفاء رائدهم.(......) وعلى الحاكم الذكي المتبصر ألا يحافظ على وعوده عندما يرى أن هذه الحافظة تودي إلى الإضرار بمصالحه، وان الأسباب التي حمتله على إعطاء هذا الوعد لم تعد قائمة ،ولو كان جميع الناس طيبين، فان هذا الرأي لا يكون طيبا. ولكن بالنظر إلى أنهم سيئون وهم بدورهم لن يحافظوا على عهودهم لك، فانك لست ملزما بالمحافظة على عهودك لهم.ولن يعدم الأمير الذي يرغب في إظهار مبررات متلونة للتنكر لوعوده ، ذريعة مشروعة لتحقيق هذه الغاية."
واجبنا تجنب التعرض للاحتقار و الكراهية :
ينصح الكاتب أميره بتجنب كراهية الناس و احتقارهم ، وينبهه إلى أن كراهية الشعب لا يسببها سوى تحول الأمير إلى سالب ناهب يغتصب الأعراض ويستولي على الممتلكات. فكلما تجنب هذا السبيل كان اقرب إلى رضا شعبه وحبه."إن على الأمير أن لا يخشى كثيرا من المؤامرات إذا كان الشعب راضيا عنه ، أما إذا كان مكروها ويحس بعداء الشعب له فان عليه أن يخشى من كل إنسان ومن كل شيء . وقد جرت عادة الدولالمنظمة والأمراء العقلاء أن لا يدفعوا بالنبلاء إلى درجة البأس ، وان يرضوا الشعب . إن هذا الموضوع من أهم المواضيع التي تتحتم على الأمير العناية به."
كيف يعمل الأمير لاكتساب الشهرة؟
ينصح الكاتب الأمير بالإقدام على المشاريع العظيمة قصد نيل الشهرة ، وعدم اتخاذ الحياد من النزاعات القائمة بين جيرانه بل التدخل والتصريح بموقف واضح . أما في تعامله مع شعبه "على الأمير أن يظهر نفسه دائما ميالا إلى ذوي الكفاءة و الجدارة وان يفضل المقتدرين ويكرم النابغين في كل فن،وعليه أن يشجع بالإضافة إلى ذلك مواطنيه على المضي في أعمالهم.سواء في حقول التجارة أو الزراعة أو أية مهنة أخرى يمتهنها الناس. (.....) وبالإضافة إلى كل ذك عليه في الفصول المناسبة من السنة أن يشغل الشعب بالأعياد ومختلف العروض المسرحية وغيرها. ولما كانت المدينة مجزاة إما إلى نقابات أو طبقات ، فعليه أن يهتم بجميع هته المجموعات وان يختلط بأفرادها من وقت لآخر. وان يقدم لهم مثلا على إنسانيته وجده محتفظا دائما بجلال منصبه ووقار مكانته. وهو ما يجب ألا يسمح قط بتأثرهما أو زوالهما مهما كانت الأسباب."
هل القلاع وغيرها من الأشياء التي يبتكرها الأمير نافعة أو مؤذية؟
بعد استدلاله ببعض الأمثلة ، يخلص ميكيافللي إلى أن القلاع ليست بالأهمية الكبيرة التي تبدو عليها ، فهي بالنسبة إليه حماية مؤقتة لا تغن عن الأمان المضمون والمتمثل في حب الشعب."فان خير قلعة يقيمها الأمير تكون في أفئدة شعبه ، إذ على الرغم من إقامتك القلاع فليس في وسعها حمايتك إذا كان شعبك يكرهك. وعندما يثور الشعب ضدك ، فلن يعدم أنصارا من الأجانب يسارعون إلى تقديم العون له. "
وزراء الأمير
لا يغفل مؤلف " الأمير " عن الخوض في مسالة في غاية الأهمية و الخطورة في نظام الحكم ، وهي مسالة الوزراء . فهو يرى أن حكمة الأمير وتبصره تتجسد في نوعية وزرائه ، وسوء اختياره لهم يعد أولى خطاياه. لذا يقدم له ميكيافللي عددا من النصائح الخاصة بالموضوع من قبيل.
"وهناك طريقة تمكن الأمير من معرفة وزيره واختباره ، وهي طريقة لا تخطئ أبدا. فعندما يفكر الوزير بنفسه أكثر من تفكيره بك ، وعندما يستهدف في جميع أعماله مصالحه الخاصة ومنافعه ، فان مثل هذا الرجل لا يصلح لان يكون وزيرا نافعا ، ولن يكون في وسعك الاعتماد عليه. إذ أن من تعهد إليه مهام دولة الآخرين . يجب ألا يفكر قط بنفسه وإنما بالأمير . وألا يكترث بشيء سوى ما يتعلق بالأمير . وعلى الأمير بدوره لكي يحتفظ بولاء وزيره وإخلاصه أن يفكر به ، وان يغدق عليه المال و مظاهر التكريم ، مبديا له العطف ومانحا إياه الشرف. وعاهدا إليه بالمناصب ذات المسؤولية ، بحيث تكون هذه الأموال ومظاهر التكريم المغدقة عليه كافية لا تحمله على أن يطمع بثروات وألقاب جديدة، وبحيث تكون المناصب التي يشغلها مهمة إلى الحد الذي يخشى منه على ضياعها. "
المنافقون
يتطرق ميكيافللي لخطيئة لا تقل أهمية عن سابقتها ولا يستطيع الأمراء تجنبها إلا ببالغ الصعوبة ، ألا وهي منح أذن صاغية لأراء المنافقين المداهنين - الذين تغص بهم بلاطات الملوك والأمراء- و التأثر بها. وبهذا الخصوص يقول:
"وليست هناك من طريقة أفضل في وقاية نفسك من النفاق. من أن تجعل الجميع يدركون أنهم لن يسيؤوا إليك، إذا ما جابهوك بالحقيقة. ولكن عندما يجرؤ كل إنسان على مجابهتك بالحقيقة فانك تفقد احترماك. و الأمير العاقل هو من يتبع سبيلا ثالثا ، فيختار لمجلسه حكماء الرجال ، ويسمح لهؤلاء و حدهم بالحرية في الحديث إليه ومجابهته بالحقائق. على أن تقتصر هذه الحرية على المواضيع التي يسألهم عنها ،ولا تتعداها. ولكن عليه أن يسألهم عن كل شيء وان يستمع إلى آرائهم في كل شيء، وان يفكر في الموضوع بعد ذلك بطريقته الخاصة. وعليه أن يتصرف في هذه المجالس ومع كل من مستشاريه بشكل يجعله واثقا من انه كلما تكلم بصراحة وإخلاص كلما كان الأمير راضيا عنه. وعليه بعد ذلك ألا يستمع إلى أي إنسان ، بل يدرس الموضوع بنفسه على ضوء آراء مستشاريه،ويتخذ قراراته التي لا يتراجع عنها . أما الأمير الذي يسير على طريقة مغايرة فيتهور متأثرا بآراء المداهنين و المنافقين ، أو يبدل قراراته وفقا للآراء التي تطرح عليه. فانه يفقد الاحترام و التقدير."
مقاومة القدر
لا ينكر ميكيافللي أهمية الأقدار في مصير الإنسان ، إلا انه يرفض الاستسلام لها والقول بأنها تتحكم تماما بحياتنا. بل يرى أن لإرادتنا دورا كبيرا في تحديد مسار حياتنا .
"اعتقد أن ليس في وسعنا تجاهل إرادتنا تمام التجاهل. وفي رأيي إن من الحق أن يعزو الإنسان إلى القدر التحكم في نصف أعمالنا ، وانه ترك النصف الآخر أو ما يقرب منه لنا نتحكم فيه بأنفسنا."
ولمكيافيللي في هذا الموضوع موقف خاص دون غيره من المفكرين يبين فيه انه "إذا كان باستطاعة الإنسان إن يغير طبيعته وفقا لتغير الأزمنة و الظروف ، فان القدر لا يتغير أبدا. "
توحيد ايطاليا
على ضوء كل ما تقدم من حديث عن خصائص الإمارة وخطاياها، ينتقل المؤلف إلى تحليل الحالة السياسية التي تعيشها بلاده ، وطرح الحلول التي يراها مناسبة للخروج من وضعها المتأزم.
لماذا فقد أمراء ايطاليا دولهم؟
" ولذا على أمرائنا الذين احتفظوا بممتلكاتهم مدة طويلة، أن لا يلوموا الحظ لأنهم أضاعوها، بل عليهم أن يلوموا تواكلهم لأنهم لم يفكروا في أيام الرخاء و السلام بان الأمور قد تتبدل لاسيما وان خطا الناس الشائع أن لا يحسبوا حساب العواصف عندما تكون الرياح رخية هنية."
الحض على تحرير ايطاليا من البرابرة:
في هذا الجزء يعبر المؤلف عن المرارة والأسى تجاه الأوضاع التي يعاني منها وطنه ويعبر عن أمنيته في ظهور قائد كفئ قادر على توحيد ايطاليا وإبعاد الغزاة عنها. فيحاول إقناع مخاطبه "لورنزو مديتشي الجديد" بأنه ذلك الأمير المنتظر الذي تتوفر له كل الظروف الملائمة لإنقاذ البلاد. حيث أن الايطاليين مستعدون لإتباع أول قائد يدعوهم للخلاص من الوضع السيئ الذي يعانون منه. كما أن انحداره من أسرة كنسية يجعل الله يبارك خطواته.
ويستمر ميكيافللي بعدها في حث أميره على اتخاذ هذه المبادرة قائلا بان الإرادة الحقيقية كافية لتذليل كل الصعاب، كما انه يكفي الأمير إتباع الإجراءات التي سردها عليه والاتعاظ بالأمثلة التي حللها في رسالته إليه. خاصة العمل على تبني أساليب وقوانين جديدة ، وإحاطة نفسه بقواته الخاصة ، ناهيك عن بعض النصائح العسكرية المستوحاة من تجارب حقيقية. وفي الختام يؤكد له انه إذا تمكن من تحقيق الوحدة الايطالية والاستقرار و الطمأنينة فسيلقى تأييدا وحبا عظيما من شعبه وسيدين له بالطاعة و الولاء.
لم يكن كتاب الأمير وحده من تناول موضوع الحكم والحكام ، فقد ظهرت قبل عصره عدة نظريات حملها الفكر اليوناني (أفلاطون- المدرسة السفسطائية...)، والحضارة الرومانية (جمهورية شيشرون- تشريعات جستنيان...)والفكر الإسلامي ( منذ اجتماع السقيفة وحتى الفارابي والماودري وابن خلدون ...)، دون نسيان حكماء الهند والصين (بوذا - زارادشت...). إلا أن مؤلف ميكيافللي هذا تميز بخصوصية كانت سر لعنته وخلوده في آن ، فهو أول مفكر تجرأ على الجهر بفصل السياسة عن الأخلاق.وفي حقه يقول" الدكتور فاروق سعد" *:
( إذا كان لأرسطو الفضل في منهجة المعرفة التي قامت عليها منهجة التفكير السياسي بوجه عام ، واعتماد المنهج الاستقرائي بوجه خاص،وإذا كان أفلاطون قد أمد التفكير السياسي بطاقة الخيال الخلاقة البناءة ،وإذا كان ابن خلدون قد زود الفكر السياسي بالمادة الموضوعية وربطه ربطا محكما بالاجتماع والاقتصاد وفلسفة التاريخ،فقد حقق ميكيلفللي (1527-1469) انفصال التفكير السياسي عن الأخلاق انفصالا بينا . واكتشف اتساق السياسة في قوانين ثابتة لا تتغير معتمدا في ذلك المنهج الموضعي مستمدا مادته من تحليل ومراجعة التاريخ الروماني (كتاب المطارحات) ومن ملاحظات سياسات الدول المعاصرة له. "
بل ابعد من ذلك نجد ميكيافللي يركز على الطبيعة الإنسانية في أسوأ حالاتها ، فالبشر بالنسبة له – كما يقول موسوليني : "خبثاء يتمسكون بالمصالح المادية أكثر من تمسكهم بحياتهم الخاصة وهم على استعداد لتغيير أهوائهم وعواطفهم ".
السمعة السيئة لم تلحق بميكيافللي في حياته بل لحقته بعد وفاته يوم نشر كتابه الأمير للمرة الأولى في ايطاليا ،حيث تم حظر جميع مؤلفاته بسبب الهجوم الشرس الذي تعرض له خاصة من رجال الكنيسة ، وقد تم وصفه بالشيطان هو ومن يتشدد لفكره.وصارت الميكيافلية مرادفا للدهاء والخبث والغدر وسوء الأخلاق.لم يسترجع "الأمير" وصاحبه قيمته إلا مع عصر النهضة خاصة في القرن الثامن عشر عندما انكب مجموعة من المفكرين على تحليله وترجمته إلى عدة لغات.
خلاصة القول كما جاء على لسان الدكتور "فاروق سعد":": قضى مكيافللي ثلاثة عشر عاما يجاهد لتحسين الأحوال في بلاده وقد تعلم في هذه المدة الكثير من الحقائق . وكان الجزاء الذي لقيه هو النفي.ومن نافلة القول أن ننكر أن كتاب "الأمير" مؤلف ينطوي على المرارة التي نجمت عن فشله في حياته.وليس في استطاعة القارئ الحديث أن يسمح لهذه الحقيقة أن تحول بينه وبين رؤية ما يحتوي عليه الكتاب من حقائق ما زالت تنطبق على واقعنا في هذه الأيام."
وداد الرنامي
* الدكتور "محمد فاروق سعد" المعروف "بفاروق سعد" هو مفكر لبناني حاصل على دكتراه في القانون وأخرى في الآداب . له مؤلفات عديدة في المجالين وهو مترجم نسخة "الأمير " التي قمنا بتلخيصها. تحمل هذه النسخة عنوان :"ثرات الفكر السياسي قبل الأمير وبعده"، الطبعة الرابعة و العشرون ،صادرة عن دار الآفاق الجديدة ببيروت سنة 2002.